"سندباد الجديد" سلسلةٌ تحتفي بأدب الرحلة وتتطلع، كما أسلفنا في سلسلة "ارتياد الآفاق"، إلى بَعْثَ واحدٍ من أعرقِ ألوانِ الكتابةِ في ثقافتنا العربية، وذلك بتقديم نماذج معاصرة من أدبِ الرِّحلةِ العربي، وهي سلسلة موازية للسلسلة التراثية "مائة رحلة عربية إلى العالم" التي شرعنا في إصدارها بدءاً من العام 2001، في إطار مشروع "ارتياد الآفاق".
تهدف هذه السلسلة إلى احتضان النصوص الحديثة في أدب الرحلة العربي، وكذلك نصوص الكتاب العرب عن المكان، والنصوص الأدبية المستلهمة من الأسفار ومدونات التراث الجغرافي العربي والإسلامي في مسعى قصده تشجيع المؤلفين على مقاربة هذا اللون من الأدب القائم على الخبرات الشخصية في العلاقة مع المكان، والحركة عبره، والإطلال على الطبيعة والناس والعمران وما تذخر به الحياة الحديثة في الجغرافيات المختلفة من اختلاف في أحوال الإنسان، معاشِه ونشاطِه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وميولِه وعاداتِه وتقاليدِه وحياتِه الروحية.
معروف أن يوميات المسافرين ومدوَّناتهم الشخصية تشكل في الثقافات الأخرى مكتبة قائمة في ذاتها، وتعتبر كتب أدب الرحلة من أمتع المؤلفات وأكثرها رواجاً على اختلاف قيمتها الأدبية، وتنوع الموضوعات التي طرقها كتابها. وهذه الحقيقة تجعلنا نتساءل: هل هناك أدب رحلة عربي جديد، له ملامح وسمات مميزة عن تلك التي ظهرت في كتابات الرحالة العرب حتى مطلع القرن العشرين؟
مثل هذا السؤال ستجيب عنه هذه السلسلة الأولى من نوعها بالعربية. لن نستبق الإجابة، وسنترك للقراء والباحثين العرب أن يجيبوا بأنفسهم عن هذا السؤال.
على أن هذه السلسلة من شأنها أن تفتح أبواباً عدة، منها ما يفضي إلى إمكان المقارنة بين نظرة المسافر العربي المعاصر بوسائل وإمكانات حديثة وبين الرحالة العرب القدامى والوسيطين الذين تجشموا عناء السفر وصولاً إلى الآخر بإمكانات بسيطة، كانت أقصى ما أتاحته لهم ظروف زمانهم. ومن شأنها أيضاً أن تجدد دم الرغبة في استكشاف الآخر، وتردم الفجوة الكبيرة بين أدب الرحلة العربي الموضوع حتى مطلع القرن العشرين، وبين كتابات الحاضر التي عادت إلى الظهور بعد غياب لهذا اللون الأدبي استمر أكثر من نصف قرن.
نتطلع أيضاً من خلال نصوص هذه السلسلة إلى استكشاف طبيعة الوعي بالذات والآخر الذي تشكَّل عن طريق الرحلة، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرَّحالة، والانتباهات التي ميَّزت نظرتهم إلى الدول والناس والظواهر والأفكار. فأدب الرحلة، على هذا الصعيد، يشكِّل ثروةً معرفيَّةً كبيرةً، ومخزناً للمشاهد والقصص والوقائع والملاحظات، فضلاً عن كونه مادة سرديّة شائقة تحتوي على الطريف والغريب والمُدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفسٌ تنفعل بما ترى، ووعي يُلِمُّ بالأشياء ويحلِّلها ويراقب الظواهرَ ويتفكَّرُ فيها.
الظَّاهرة الغربية في قراءة الآخر الشرقي وتأويله، شكلت ذات يوم دافعاً ومحرضاً بالنسبة إلى أفراد من النخب العربية المثقفة ممن وجدوا أنفسهم في مواجهة صور غربيَّة لمجتمعاتهم جديدة عليهم، وهو ما استفز فيهم العصب الحضاري، وولَّد لديهم دوافعَ وأسباباً لشدّ الرحال نحو الآخر، بحثاً واستكشافاً، ليعودوا ومعهم ما يقولونه في حضارة الآخر الغربي، ونمط عيشه وأوضاعه، ضاربين بذلك الأمثال للناسِ، ولينبعث في المجتمعات العربية، وللمرة الأولى، صراع فكري حاد تُسْتَقْطَبُ فيه القوى الحيَّةُ في المجتمع بين مؤيد للغرب موالٍ له ومتحمِّسٍ لأفكاره وصياغاته، وبين معادٍ لذلك الغرب، رافض له، ومستعدّ لمقاتلته.
وهو ما أثرى المكتبة العربية بعدد من المؤلفات لأحمد فارس الشدياق، محمد عبد الله الصفار، محمد الحجوي أبو جمال الفاسي، فرانسيس المرَّاش، سليم بسترس أحمد زكي باشا، إدوارد بك الياس، محمد لبيب البتنوني، جرجي زيدان، محمد كرد علي، محمد عياد الطنطاوي، الأمير محمد علي، مصطفى فروخ، عنبرة سلام الخالدي، محمد رشيد رضا الأمير يوسف كمال، محمد ثابت، لويس شيخو، طه حسين، ومحمود تيمور... وغيرهم.
لكن هذا اللون من الأدب سرعان ما اختفى في النصف الثاني من القرن العشرين، تاركاً مكانه لأعمال البحث الفكري والكتابات الأيديولوجية في حمأة صراع سياسي واجتماعي عربي محتدم، إضافة إلى ظهور الرواية وانتشارها الواسع في النصف الثاني من القرن نفسه. غفا السندباد واختفى أدب الرحلة، ولم تعد الكتابة في هذا الميدان تشكل ظاهرة أدبية يمكن الإشارة إليها.
نطمح أن تكون هذه السلسلة من الكتب مؤشراً على يقظة السندباد.

محمد أحمد السويدي